يرى بعض الباحثين أن العرب في الجاهلية لم يعرفوا الوقف، ومن ثم لم تكن لهم أوقاف تُذكَر مستدلا في ذلك بقول الإمام الشافعي رضي الله عنه: ( لم يحبس أهل الجاهلية فيما علمته دارا ولا أرضا تبررا بحبسها وإنما حبس أهل الإسلام ) (1).
وهذا لا يعني أن العرب في الجاهلية لم يعرفوا فكرة الوقف ولا يوجد لهم حبس قبل الإسلام؛ لأن ذلك مناف للتاريخ ولكلام الشافعي معا؛ فمن الأوقاف التي اشتهرت عند العرب قبل الإسلام، الوقف على الكعبة المشرفة، بكسوتها وعمارتها كلما تهدمت، وقد قيل إن أول من كسا الكعبة، ووقف عليها (أسعد أبو كريب ملك حمير) (2). وآخر بناء للكعبة بعد تهدمها في الجاهلية كان قبل بعثة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بخمس سنوات ، وقد اتفقوا ألا يدخلوا في بنائها إلا ما كان طيبا ، فلا يدحل فيها مهر بغي ولا بيع ربا ولا مظلمة لأحد من الناس (3)، وفيها حدثت الواقعة المشهورة ؛ وهي التنازع على من ينال شرف وضع الحجر الأسود في موضعه، فعرض أبو أمية بن المغيرة المخزومي أن يُحكّموا فيما شجر بينهم أول داخل عليهم من باب المسجد، فارتضوا هذا الرأي، وشاء الله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أول داخل، فلما رأوه هتفوا، وقالوا: هذا الأمين فلما انتهى إليهم، وأخبروه الخبر طلب رداء فوضع الحجر وسطه، وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسكوا جميعاً بأطراف الرداء، وأمرهم أن يرفعوه حتى إذا أوصلوه إلى موضعه أخذه بيده فوضعه في مكانه، وهذا حل حصيف رضي به القوم. وأما من حيث نص كلام الشافعي فإنه لا ينفي وجود الوقف في الجاهلية، والدليل على ذلك قوله ( تبررا بحبسها )، أي أن الهدف من الوقف البر والتقرب إلى الله، فهو لم ينف وجود الحبس ولكنه نفى ان تكون النية فيه خالصة لله وإنما للتفاخر والتباهي.
أول وقف في الإسلام
فإذا ما انتقلنا إلى الوقف في الإسلام وبدايته فإنه لا يوجد خلاف – فيما أعلم – بين المسلمين في أن أول وقف ديني في الإسلام هو وقف مسجد قباء، الذي قال الله تعالى فيه ” لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه ” (التوبة : 108)، وكان ذلك بعد الهجرة مباشرة.
وثاني تلك الأوقاف الدينية وقف المسجد النبوي الشريف، وكانت أرضه ملكا لغلامين يتيمين من بني النجار، فاشتراها النبي صلى الله عليه وسلم وأقام عليها مسجده، وقد شارك أصحابه الكرام في إنجاز بنائه وبناء حجراته لنسائه أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن، وقد تم وقف هذا المكان تحديدا للمسجد لأن ناقته القصواء بركت فيه وكان مربدا (4) ليتيمين من بني النجار، بعد ان أراد كثير من الأنصار الإمساك بزمامها لتوجيهها نحو بيوتهم كي ينالوا شرف استضافة النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال عليه الصلاة والسلام قولته المشهورة ” دعوها فإنها مأمورة ” (5) فبركت في هذا المكان، ثم قامت فبركت أمام باب دار أبي أيوب الأنصاري، ثم عادت وبركت في مكان المسجد.
1) الأم للإمام الشافعي ، مطبعة كتاب الشعب ، 3/275
2) انظر: مقدمة ابن خلدون 3/842، والوقف مشروعيته وأهميته د/ الدريويش ص29.
3) انظر : سيرة ابن اسحاق ( كتاب السير والمغازي) : محمد بن اسحاق ، تحقيق : سهيل زكار ، دار الفكر ، ط1، 1398، 1/105
4) المربد : المكان الذي ينشف فيه التمر ، انظر : المعجم الوسيط ، مجمع اللغة العربية بالقاهرة ، دار الدعوة ، 1/322
5) انظر : دلائل النبوة : للبيهقي ، دار الكتب العلمية – بيروت ، ط1 ، 1405، 2/501 – والسيرة النبوية لابن هشام ، تحقيق : طه عبد الرءوف سعد ، شركة الطباعة الفنية المتحدة ، 2/100،101